يبقى المكان هاجس الروائيين شأنه شأن الزمن، والكثير من الكتاب اختاروا التاريخ كمادة روائية خصبة قدموا من خلال إعادة كتابته وجهات نظر فنية أخرى لما حدث أو يحدث، وهنا تكمن أهمية الروايات التي تتناول التاريخ وتنصف المنسيين والمهمشين فيه، من بين هؤلاء نجد الكاتب والسيناريست السوري نهاد سيريس، الذي التقته “العرب” في حوار حول مشواره الحافل ومشروعاته المقبلة.
نهاد سيريس، روائي وسيناريست سوري، من مواليد حلب، بدأ الكتابة الأدبية منذ ثمانينات القرن الماضي؛ وارتكزت معظم أعماله الروائية حول التاريخ والواقع. في ثلاثية “رياح الشمال” يبدأ سيريس أحداث الرواية منذ الحرب العالمية الأولى لتتابع تطور الأحداث التاريخية في جزأيها. وتحتل مسألة الاستبداد والدكتاتورية مساحة واسعة في اشتغالاته الروائية. وعلى صعيد الدراما فقد كتب عددا من الأعمال الدرامية التي حققت نجاحا باهرا وشهرة واسعة.
يقيم نهاد سيريس في ألمانيا منذ ما يقرب من خمس سنوات بعد أن هجر وطنه سوريا جراء ظروف الحرب، وفي بداية حديثه مع “العرب” يقول سيريس “أحب وطني وأحب مدينتي التي كتبت عنها معظم أعمالي، لديّ علاقة حميمية مع المكان لا يمكن أن تزول لمجرد ابتعادي عنه. المكان عندي أكثر من حجارة وتراب، المكان عندي تاريخ وعلاقات متنوعة، ولا يمكن تصور تلك العلاقات من دون المكان. ثم إن عالم المدينة أشبه بكائن حي يحتل أفئدة السكان. بالنسبة إلى الزمان فقد أسرني التاريخ أما بالنسبة للمكان فقد أسرتني المدينة بطرقاتها وبيوتها وأسواقها”.
الحيز المكاني
يقول سيريس “إن الدمار الذي لحق بحلب جعلني أتوقف عن الكتابة لبعض الوقت فلا يمكن تصور الناس والعلاقات بينهم ضمن كل هذا الخراب، وعندما تصاب المدينة فإن الخيال يصاب بجرح عميق ومن ثم يتوقف عن العمل. كيف لي أن أتصور شخصياتي دون الحيز المكاني الذي يجمعهم؟ الحرب أيضا جعلتني أعيد النظر بقناعاتي وأسلوب عملي. أعتقد أنني سأكتب بطريقة أخرى وقد حاولت ومازلت أحاول”.
يلفت الروائي إلى أنه يعمل على التغيير في أسلوب الكتابة، لأن أساليب ما قبل الحرب لم تعد ترضيه، ولم يعد يرضيه أيضا الكثير من الأعمال التي أنتجها الآخرون، ورغم ذلك يستدرك “إنني بعيد ولا تتاح لي متابعة كل ما يصدر في البلاد العربية وخاصة في سوريا، لذلك لا أستطيع قول شيء عن أعمال الكتّاب الآخرين بشكل جازم”.
نهاد سيريس يرى أن الدراما السورية حاليا فيها جوانب كثيرة غير مقنعة وضعيفة فنيا، ولا يستثني أعماله السابقة
يُبين سيريس أنه عبر أعماله الروائية المتعددة بدءا من روايته الأولى “السرطان” كان هاجسه التنوير من خلال دفع القارئ إلى معرفة نفسه ومجتمعه وتاريخه بشكل صحيح حتى لو اصطدم بما هو متعارف عليه أو بما يُسمى التاريخ الرسمي، وكان طموحه في أعماله الروائية والدرامية دفع الناس إلى التغيير، والتغيير لا يتحقق إلا بمعرفة الناس لأنفسهم ولمجتمعهم بشكل صحيح، ولا سيما مع إيمانه بأن خداع الناس من خلال تقديم الأوهام والقراءة الكاذبة وغير الحقيقية لأوضاعنا وتاريخنا يجعلنا كمن يعيش في مستنقع.
بعد عقود من احتراف الكتابة الروائية، ثمة نظرة خاصة تتكوّن إزاء العمل الروائي الأول، بعض الأدباء يعاودون النظر في أعمالهم الأولى ويشعرون بنقصها وأحيانا قد يلجأ بعضهم إلى تعديلها بعد سنوات.. وهنا يُبيّن سيريس “لقد كتبت روايتي الأولى ‘السرطان’ في وقت كنت أعيش فيه أوهام أيديولوجيا معينة. لو أتيحت لي كتابتها من جديد لتغيرت جذريا، ثم إن بعض قناعاتي التي سكبتها في الرواية قد تغيرت. أحبَّ هذه الرواية الكثير من الناس، وقد اتصل بي شخص كان قد خرج من السجن السياسي حديثا ليصف لي كيف كان السجناء يتداولون نسخة، كانت قد هرّبت إليهم من خارج السجن، بطريقة يتمناها كل كاتب. أحبُّ رواية السرطان ولكنني لا أحب الآن كل ما جاء فيها”.
كتب الروائي السوري في الرواية التاريخية ومنها عمله الروائي التاريخي الكبير ثلاثية “رياح الشمال”. وينوه سيريس بأنه اقتحم هذا المجال لأنه كانت لديه الكثير من الأحداث يرغب في تسجيلها. كانت تضغط عليه لكتابتها وقد كان تحت تأثير الأعمال الروائية الكلاسيكية العالمية التي قرأها بحماس، فراح يكتب دون أي حساب للصراعات أو الأساليب التي يفضلها النقاد العرب، فكانت النتيجة بناء العشرات من الشخصيات والقصص، وكان أثناء الكتابة يتابع شخصياته في تطورها الفكري والدرامي مع تدقيقه الدائم لتوازي تطورها مع التاريخ. لم تكن هناك حدود معينة يتوقف عندها فتابع الكتابة حتى أنجز رواية ذات حجم كبير بمئات الصفحات. وكانت الصعوبة الوحيدة التي واجهها آنذاك في البحث عن ناشر، فمن ذا الذي سينشر رواية ضخمة مثل هذه لكاتب مبتدئ؟
الكتابة والدراما
يرى سيريس أن هناك عددا من الأعمال الروائية التاريخية السورية للروائيين من جيله والأجيال اللاحقة لافتة وتستحق الاهتمام، ويذكر منها رواية “مدارات الشرق” للروائي السوري نبيل سليمان وكذلك أعمال الروائي المهم فواز حداد.
في ما يتعلق بحجم الحضور الشخصي له في أعماله، يشير سيريس إلى أنه كان دائما يُسجل الأحداث التي يعرفها وعايش قصصها في أحاديث الناس القريبين منه وخاصة عائلته ومن في حكم القرابة، إلا أنه عادة لا يتوقف عند الناس الذين عرفهم بل انتقل أثناء تطور الرواية إلى بناء شخصيات متخيلة تكون الرواية بحاجة إليهم، فيسجل قناعاته الشخصية ويجعلها لشخصيات تأخذ دوره دون أن تكون مطابقة له بالضرورة.
كاتب هاجسه التنوير من خلال دفع القارئ إلى معرفة نفسه ومجتمعه وتاريخه بشكل مختلف عما يقدمه التاريخ الرسمي
يتابع سيريس “في عملي الأخير تغيّر أسلوبي؛ فقد كانت الشخصية الرئيسية قريبة جدا مني وحمّلتها أمورا كثيرة مني ولكنها ليست مذكرات شخصية على الإطلاق. لافتا إلى أنه كتب مؤخرا رواية جديدة بعنوان ‘مذكرات برلين’، ستصدر قريبا عن دار الآداب، وضع فيها بعضا من تصوراته عن التغيير، فحسب رأيه ما جرى في سوريا سبب للجميع صدمة على جميع الصُعُد حتى أن الصدمة قد وصلت إلى مفاهيمنا وأساليبنا، وهذا ما أراد أن يفعله في تلك الرواية”.
قدّم سيريس العديد من الأعمال الخالدة في الدراما السورية، مثل مسلسل “خان الحرير”، “الثريا”، “الملاك الثائر”، “الخيط الأبيض” و”جبران”. يقول سيريس “لا أستطيع مشاهدة الدراما السورية حاليا ففيها جوانب كثيرة غير مقنعة وضعيفة فنيا وأنا لا أستثني أعمالي السابقة فهي أيضا تعاني من بعض الضعف”.
يختم سيريس حديثه معنا قائلا “لقد طالت الأزمة السورية أكثر من المتوقع ولا أمل قريبا في الحل. النظام السوري يريد انتصارا كاملا على المعارضين مع الرغبة في الانتقام بشكل قمعي حتى من المعارضة السياسية السلمية، بينما القوى المعارضة وخاصة الفصائل المسلحة منقسمة على نفسها وتتقاتل في ما بينها وأصبح جزء كبير منها
غير مقبول عالميا بسبب توجهاته الإسلامية المتشددة. هذا الأمر يزيدني تشاؤما ولا أستطيع أن أرى حلا قريبا للأزمة. إن ما أتمناه هو أن تحدث معجزة وتنتهي هذه الحرب المشؤومة”.
تعليقات
إرسال تعليق